فارس يواكيم: انهيار العرب بدأ في السبعينات مع ما سمي «عصر الانفتاح»

بعد صدور ترجمته لكتاب «عنف الديكتاتورية» لستيفان زفايغ

فارس يواكيم
TT

فارس يواكيم، اسم عابر للفنون. كتب نصوصا لمسرحيات وأفلام ومسلسلات، ألّف للصغار والكبار، أرّخ للأغنيات الآتية من الشعر وللشوام في مصر، حقق المخطوطات، أعد البرامج التلفزيونية والإذاعية، وعمل صحافيا ومذيعا. حقا، إن ما يلفت عند فارس يواكيم هو هذه التعددية الثقافية وعدم اعترافه بالحواجز بين الأنواع الكتابية. كتب لفنانين كبار على رأسهم شوشو، صباح، دريد لحام، فريد الأطرش، قبل أن يعكف في الفترة الأخيرة على إصدار كتب جديدة له، كان آخرها ترجمة لكتاب ستيفان زفايغ «عنف الديكتاتورية» من الألمانية إلى العربية، مقدما من خلاله نموذجا للديكتاتور كالفن، الذي تلحف بغطاء البروتستانتية ليصل إلى مآربه. هنا حوار مع فارس يواكيم، يحاول الإحاطة بمساره التعددي قدر الممكن.

* لنبدأ من آخر المطاف، من كتاب «عنف الديكتاتورية». هل بمقدورنا أن نتحدث عن بنية تحتية للديكتاتورية، ورصدها شرقا وغربا؟ وما ملامحها؟

- الديكتاتورية هي هي، وملامحها كذلك، شرقية كانت أم غربية، معاصرة أو تاريخية. نعم، هناك تشابه في البنى التحتية. المهم إلغاء الآخر، ثم الآخرين، والإمساك بالسلطة بقبضة من حديد. حين قرأت كتاب ستيفان زفايغ الذي كتبه عن ديكتاتورية كالفن، أحد أقطاب البروتستانتية، أدركت أن الموضوع معاصر، لوجود تشابه كبير بين ما جرى في جنيف ثم في أوروبا في القرن السادس عشر وما جرى ويجري في الشرق الأوسط في العصر الراهن. أساسا حين كتب زفايغ هذا الكتاب سنة 1936 كان يرصد صعود ديكتاتورية النازية في ألمانيا ويستشرف خطرها على أوروبا والعالم. لم يكن بوسعه أن يتكلم على هتلر بالاسم، فاختار حقبة تاريخية مشابهة. هذا ما دفعني إلى ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، ليقيني أن مقولة «التاريخ يعيد نفسه» ذات مصداقية.

* وهل هناك محطات يسلكها الديكتاتور ليحكم قبضته على مجتمع ما، تبعا لما رأيناه عند كالفن؟

- كما عند كالفن كذلك عند غيره. ينقل كل ديكتاتور خطة من سبقه في الصنعة ويطبقها مع رتوش تقتضيها متطلبات العصر. الخطوة الأولى في رحلة الوصول إلى السلطة تبدأ باستغلال أخطاء السلطة السابقة، وإغداق الوعود البراقة بمستقبل أفضل. هتلر وصل إلى الحكم بانتخاب ديمقراطي. ويختلف الأمر بعد الوصول إلى السلطة. ويكون ذاك الانتخاب الديمقراطي آخر ملامح الديمقراطية في المجتمع. فور الوصول إلى السلطة المهم تأمين أدواتها: الأمن، وأول مظاهره القمع! وتصفية الخصوم الواحد بعد الآخر.. وعلى خط موازٍ: الدعاية، أو البروباغندا، أو الإعلام.. استغلال كل وسائل التأثير في الرأي العام وغسل الأدمغة. وفي باب الرصد: قديما كانوا يدعونهم العسس، حديثا صار اسمهم المخابرات. والمخابرات توالي الحاكم الراهن، أيا كان اتجاهه. ناهيك بسيطرة الديكتاتور على كامل إدارات الدولة التي من خلالها يمكن استقطاب الانتهازيين والمنتفعين.

* ولدت في مصر وتعلمت فيها، ولك كتاب عن شوام مصر باسم «ظلال الأرز في وادي النيل». ماذا أضافت لك تجربتك المصرية كلبناني، وكيف عشت ونمت أفكارك بين انتماءين عربيين؟

- أيامها ما كان هناك «انتماءان عربيان».. كان فعلا كما تقول كلمات النشيد الذي رددناه ونحن أطفال «بلاد العُرب أوطاني». هذا من لحن الأخوين فليفل اللبنانيين وردده العرب أجمعين. كان خليل مطران يدعى «شاعر القطرين»، وكان «الشوام» (يعني اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين) ينعمون بمحبة المصريين لهم، لثقافتهم ولنمط عيشهم وحتى لمطبخهم. كانوا يحبون «الكوبيبة» و«بابا غنوج» والبقلاوة. وكان أهل الشام يحبون مصر ويعتبرونها المرجع الثقافي و«عاصمة العالم العربي».. كانت الديمقراطية متوفرة بنسبة لا بأس بها في مصر والدول العربية التي نالت استقلالها آنذاك بعيد الحرب العالمية الثانية. عشت ثقافتين متجاورتين من دون تناقض. في البيت أسمع اللهجة اللبنانية من أبي وأمي، وأقرأ المجلات اللبنانية التي كان والدي مشتركا فيها، وفي المدرسة ومع أبناء الجيران والأصدقاء أتكلم اللهجة المصرية. كنا نمضي فصل الصيف في لبنان فلم تنقطع الصلة. نشأت بهذه الثنائية، التي صارت من 35 سنة ثلاثية بعد إقامتي في أوروبا، في فرنسا ثم في ألمانيا. من دون أن أدري كانت هذه الثنائية عاملا إيجابيا في حياتي العملية، لأن تقبلي وجود ثقافة ثانية، لا تتناقض مع الأولى، فتح لي الأبواب في الكثير من البلدان، يوم أغلق في وجهي باب العمل في لبنان بسبب الحرب التي اندلعت عام 1975. وأنا لم أكن موظفا في أي جهة، كنت أعيش من قلمي، وما زلت، فاضطررت إلى الهجرة سنة 1976 وكانت إلى العالم العربي المجاور.

* تجربتك ككاتب وفنان هي ذات طابع عربي بالفعل لكثرة ما عملت في دول عربية، وفي أعمال سينمائية وتلفزيونية وكتابية، عابرة للحدود العربية، كيف تنظر إلى ما يجتاح هذه البلدان اليوم؟ الانعكاسات على من يعملون في الجانب الثقافي أمثالك على الأقل؟

- «الله يستر». هذه البلدان و«الله ينجي»، البلدان التي لم يندلع فيها ربيع!.. أقول يندلع، نعم، وليست العبارة خطأ مطبعيا ولا زلة لسان. أنا متشائم لما آلت إليه الأحوال. شخصيا لم أتأثر، فأنا أقيم أساسا في ألمانيا، حيث اضطر وزيران إلى الاستقالة لأن الصحافة اكتشفت أن كلا منهما حين كان طالبا نقل صفحات في رسالة الدكتوراه ولم يُشِر إلى المصدر!.. اعتبر غشاشا، إذن لا يحق له أن يسوس الأمور ويتقلد منصب الوزير.

* عايشت نهضة الفنون العربية، وعصرها الذهبي في كل من مصر ولبنان في الستينات والسبعينات. لماذا في رأيك لم تكمل هذه النهضة مسارها التصاعدي؟ هل كانت فورة ثقافية مستعارة من الغرب، وغير قائمة على أسس ذاتية متينة؟ وهل يكفي الظرف السياسي وحده لتفسير الانهيارات المتتالية التي أصابت الأفلام والأغنيات، كما المسلسلات والشعر والرواية والمسرح؟

- الظرف السياسي لا يكفي وحده لتفسير الانهيارات، لكنه عامل أساسي. الفنون الجماعية مثل المسرح والسينما والتلفزيون والأغاني تتأثر إنتاجيا بالحالة السياسية والأمنية. والفنون الفردية مثل الشعر والرواية يتأثر مبدعها حتما بالظرف السياسي والأمني والمعيشي، وتشغل باله هذه الهموم. صحيح مثلت مرحلة الستينات والسبعينات العصر الذهبي. كانت المجتمعات متماسكة. النهضة الثقافية ترافق النهضة المجتمعية. حدث ذلك من قبل في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أثناء هجرة الشوام إلى مصر، الواحة آنذاك. لكن الانهيارات بدأت قبل الانتكاسات الأمنية الجديدة، بدأت في مرحلة السبعينات مع ما أطلق عليه أيامها «عصر الانفتاح». في السابق، في المرحلة الذهبية كان الانفتاح على الثقافة الغربية مفيدا في الآداب والفنون، في تطوير أساليب الإبداع. أما الانفتاح الآخر فكان عصر الأثرياء الجدد، ومعظمهم أميّ. هؤلاء تحكموا في وسائل الإنتاج، فكان هبوط المستوى نتيجة حتمية. فسد الذوق! ثم لا ننسى أن الثقافات في كل البلدان وكل العصور تمر بفترات ازدهار وفترات انحدار. درسنا في تاريخ الأدب العربي «مرحلة الانحطاط»، ونحن نعيش الآن مرحلة انحطاط ثانية.

* سؤال ملحّ أيضا في السياق ذاته. لماذا اندثر الكتاب المسرحيون العرب ولم نعد نسمع بهم؟

- هذا سؤال يختص بالمسرح. حسنا، تبدأ إجابتي من العموم، من حيث تأثر المسرح عموما بالانهيار السياسي والاقتصادي والأمني في المجتمع، وانتقل إلى الخصوص: كبار الكتاب ماتوا أو تقاعد الأحياء منهم بسبب القرف من الحالة أو من ظروف الإنتاج التعيسة. وهناك سبب تقني آخر، وهو أننا منذ التسعينات، في العالم وليس في العالم العربي فحسب، شهدنا عصر سيادة المخرج في دنيا المسرح. بعض أسباب ذلك يرجع إلى انسداد أفق التطوير في الكتابة وبعضها إلى تطور الناحية المشهدية في العروض المسرحية على حساب الحوار (سلاح المؤلف)، ما أدى إلى تعاظم دور المخرج. أصبحنا نرى قراءة المخرج بيتر بروك مثلا لشكسبير. وفي كل الأحوال، فحتى على الصعيد العالمي ندرت حاليا أسماء كبار كتاب المسرح.

* أكثر ما يلفت في مسارك هو تعددية الأنواع الأدبية التي كتبت فيها: مسرح، سينما، مسلسلات، أفلام، ترجمة، تحقيق، قصص الأطفال، هذا غير أنك صحافي ومذيع. كيف يمكن لكاتب أن يتنقل على هذا النحو؟ ولماذا؟

- الكتابة هي الكتابة تحتاج إلى موهبة، والتقنية أو الصنعة. الثانية يمكن التمكن منها عبر الدراسة والممارسة. حين كنت طفلا كنت أهوى القراءة، حين كان أقراني يلعبون. وفي المدرسة كنت من المميزين في الإنشاء وفي الأدب واللغات. وكنت رئيس تحرير المجلة المدرسية، مجلة الحائط آنذاك. ثم درست في المعهد العالي للسينما بالقاهرة، وفي المنهج مادة الكتابة الدرامية، السيناريو تحديدا. كما مادة تاريخ المسرح وأساليب الكتابة الدرامية، إضافة إلى مادتي حرفية التلفزيون وتقنيات الإذاعة.

* في النهاية تعددت مهنك، وبقي الرابط واحدا وهو الكتابة، بينما أنت بدأت حياتك بدراسة الإخراج، الذي لا يبدو أنه أغراك كثيرا، لماذا؟

- أغراني لكنني فشلت في تنفيذ الحلم في أوانه. نعم، أنا درست الإخراج وكنت الأول بين الخريجين في دفعتي. وحين عدت إلى بيروت حاملا شهاداتي لم أتمكن من إقناع منتج واحد بأن يسند لي مهمة إخراج فيلمي الأول. كل واحد قال لي: لا نغامر مع مخرج جديد، أطلعنا على شغلك السابق. كيف أطلعهم على أفلامي السابقة وأنا عاجز عن إخراج الفيلم الأول؟ حينئذ دخلت إلى الكتابة مضطرا. في البداية كنت ناقدا فنيا وأدبيا في الصحف اللبنانية. ثم احترفت الصحافة بالكامل وصرت سكرتير تحرير. ثم كتبت برامج إذاعية وتلفزيونية، وكرت سبحة الكتابة بكل ألوانها. «فشيت خلقي» بالنسبة للإخراج حين أخرجت بعض مسرحيات الأطفال التي كتبتها لشوشو، وبعض مسرحيات الشانسونييه التي كتبتها في بيروت السبعينات، قبل أن تصبح مسارح الشانسونييه مثل مطاعم البيتزا.. ثم أخرجت فيلما وثائقيا للتلفزيون الفرنسي (القناة الثالثة) سنة 1985 عن الفن التشكيلي في البحرين. كأنني نلت تعويضا. لكنني دائما كنت أمارس الإخراج على الورق عبر النصوص الدرامية التي أكتبها، وهذا جعل العلاقات بيني وبين المخرجين طيبة للغاية.

* كتبت لشوشو مسرحيات شهيرة، ماذا تقول عن تجربتك مع هذا الكبير؟

- الكبير فعلا. فريد زمانه أيضا. فهو أنشأ في بيروت أول، وآخر، مسرح يومي. حالة المسرح اليومي، الفرقة، الخشبة ذاتها، عرفتها بيروت مع شوشو فقط من 1965 حين أسس «المسرح الوطني» مع المخرج نزار ميقاتي، ثم استقل بمفرده من عام 1970 وحتى وفاته عام 1975. إضافة إلى موهبته الفذة في الأداء الكوميدي المسرحي، كان حسن علاء الدين عاشقا حقيقيا للمسرح. بدأت العمل معه في السينما قبل المسرح حين كتبت حوار فيلم «فندق السعادة». ثم في المسرح من 1971 حتى 1975. الباكورة مسرحية «فرقت نمرة» من إخراج محمد كريم. وآخر عمل لم يعرض كان «زوجة الفران» وقد قمت بإعداد نصها مستلهما مسرحية بالعنوان ذاته لمارسيل بانيول. الفرقة وبطلها شوشو تمرنت على هذه المسرحية لمدة شهر بقيادة المخرج يعقوب الشدراوي. وكان غازي قهوجي صمم الأزياء والديكورات. كانت التمارين خلال بداية الحرب 1975 تحت القصف. ثم تطورت الحرب واحترق المسرح ومات شوشو، ومات الحلم الجميل. شوشو صاحب فضل كبير علي شخصيا لأنه أعطاني الفرصة في بدايات حياتي المهنية، وتمسك بي كاتبا له في التلفزيون أيضا وفي السينما، بل هو الذي اقترحني على روميو لحود لأكتب «العواصف» من بطولة صباح وشوشو.

* بالإضافة إلى صباح لك تجارب مهمة مع آخرين منهم دريد لحام، هل هؤلاء الفنانون الذين كتبت لهم تركوا آثارا في نفسك؟

- لم يكن النجاح الكبير الذي حققته صباح في مسيرتها وليد الصدفة. أهم ما تعلمته من صباح وقد كتبت لها نصوص ثلاث مسرحيات أنها تحترم عملها وتقدسه. تريد أن يكون كل شيء متقنا. هي أول من يحضر إلى البروفات. تحترم العاملين جميعا، سواء من المخرجين أو الملحنين أو الزملاء المطربين أو الممثلين. دريد لحام تعاملت معه مبكرا في فيلم «واحد زائد واحد» سنة 1971 ثم لاحقا في «عندما تغيب الزوجات» 1979. أيضا فنان يعشق عمله إضافة إلى موهبته الفائقة. مع كل الذين تعاملت معهم تعلمت شيئا ما. ولا أنسى الذين ساعدوني في بداياتي: روفائيل جبور وأحمد مظهر وحلمي رفلة في السينما، والمذيعة القديرة ليلى رستم التي أعطتني فرصة العمل في التلفزيون لأول مرة وأثمر التعاون برنامجا ناجحا من إعدادي وتقديمها «سهرة مع الماضي»، ما زال تلفزيون لبنان يستعيد حلقاته.

* في الفترة الأخيرة عكفت على تأليف الكتب وعلى الترجمة، وبدت اهتماماتك متنوعة من دراسة الأغنية إلى التاريخ إلى المخطوطة، إلى...

- أحب الترجمة وأمارسها كهواية أكثر منها حرفة، وتسعفني معرفتي بأربع لغات. قد يبدو للبعض أنني مصاب بتضخم تأليفي لكثرة الكتب التي أخذت أنشرها مؤخرا. الحقيقة أن هذه الكتب مهيأة عندي من ثلاثين سنة، ولم تكن ظروفي تسمح لي بنشرها، لأن كل كتاب كان بحاجة إلى لمسات أخيرة وبعض التدقيق أو لاستكمال بعض المعلومات، وكنت منشغلا في الأثناء بأعمالي الدرامية. الآن تفرغت لهذه الكتب، أنجز الواحد منها فأدفع به إلى النشر. عندي الآن ثلاثة كتب شبه جاهزة. وعندي رغبة في العودة إلى كتابة المسلسلات التلفزيونية، وقمت بالخطوة الأولى باختيار ثلاث روايات لنرمين الخنسا، دمجتها وأضفت إليها بالاتفاق مع المؤلفة، وكتبت الحلقتين الأولى والثانية حتى الآن في مسلسل «سراب الحب».