Friday 26th of April 2024
 

عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 

مواقع التواصل الاجتماعي

 
 
  • التاريخ
    27-Nov-2007

ستيفان تسفايغ يتذكر «عالم الأمس» وساعات الهبوط والصعود

دار الحياة - دمشق - الحياة :

لم يحظَ الأديب النمسوي ستيفان تسفايغ، المولود في فيينا العام 1881، بحياة مستقرة آمنة، فالحياة التي بدت في بدايات الطفولة والصبا رخية هادئة سرعان ما كشفت عن أنيابها. إن السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين شهدت استقراراً في القارة الأوروبية. لكن وتيرة الأزمات بدأت مع نشوب الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) لتؤذن بدخول هذه القارة الهانئة مرحلة من الصراعات القاتلة. صعود النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا. اشتعال الحرب الأهلية في إسبانيا. ومع نهاية الثلاثينات ساد الخواء الثقافي، والانهيار الاقتصادي وتكلل ذلك بنشوب الحرب الكونية الثانية (1939 - 1945) التي لم يرَ تسفايغ نهايتها لإقدامه على الانتحار في مدينة بتروبولس البرازيلية في 23 شباط (فبراير) 1942.

هذا الانتحار جاء تعبيراً عن الاحتجاج على ما أصاب القارة الأوروبية من جنون أشعل حروباً طاحنة حصدت أرواح الملايين. لم يجد الكاتب بديلاً سوى الرحيل بعد أن استنزفت طاقاته «أعوام التشرد المديدة». لكنه تمنى لأصدقائه حياة أجمل، إذ كتب في رسالة مقتضبة، قبيل الانتحار: «عسى أن تتسنى لهم رؤية الفجر بعد هذا الليل الطويل! وها أنذا أتقدمهم وقد نفذ صبري تماماً».

هذه الحياة الدراماتيكية التي توزعت بين المنافي، والتي انطوت على مفارقات مريرة، هي محور مذكرات تسفايغ «عالم الأمس» التي صدرت ترجمتها العربية عن دار المدى في دمشق بتوقيع عارف حديفة.

ذاكرة متقدة. قلم لمّاح. خبرة عميقة. تلك هي الأدوات التي يتسلح بها تسفايغ في استعادة «عالم الأمس»، وفي قراءة المحطات التي كرسته كاتباً يشار إليه بالبنان، ويتلقف الملايين كتبه ورواياته: «فوضى المشاعر»، «رسالة حب من امرأة مجهولة»، «قلوب تحترق»... وسواها. عالم مفعم بالصخب، والنشاط، والطموح مثلما هو مملوء بالخيبة، والانتكاسات. ولئن بدت هذه المذكرات تروي السيرة الذاتية للكاتب، لكنها تتجاوز هذه السيرة الشخصية لتسرد وقائع عاصفة شهدتها القارة الأوربية خلال أكثر من خمسة عقود: «ما أرويه، في واقع الأمر، ليس مجرى قدري الخاص، بمقدار ما هو قدر جيل كامل، جيل عصرنا الذي أثقله عبءُ مصير قلّما أثقل جيلاً آخر في سياق التاريخ».

كتب تسفايغ هذه المذكرات في مراحل النضوج الأخيرة، وتحديداً قبل سنة واحدة من انتحاره. انتظر طويلاً حتى بلغ الاستياء مداه، فأقدم على تدوين تفاصيل حياته في مذكرات جاءت كوصية أخيرة، لا تشبه وصايا الأموات العادية المختصرة. أراد تسفايغ أن يترك للأجيال اللاحقة عصارة التجربة عبر تدوين مغامرة العيش والكتابة في مؤلف تضمر قراءته قدراً من المتعة الآتية عبر شلال غزير من المعلومات والمعارف والأحداث والوقائع.

ولد تسفايغ، كما يقول، في الإمبراطورية النمسوية العظيمة التي كانت تحكمها سلالة هبسبورغ. نشأ وترعرع في فيينا العريقة؛ مدينة المتاحف، والفنون، ودور الأوبرا... رغد العيش هذا لم يدم، بل شهد جيل الكاتب من التقلبات والأزمات ما لم يشهده جيل آخر. يقول: «في الفترة الواقعة بين نمو شعر لحيتي، والوقت الحاضر الذي أخذ يخطّ فيه الشيب، في نصف القرن هذا، حدثت تغيرات وتحولات جذرية أكثر مما حدث في عشرة أجيال من البشر! إن حاضري، وكل يوم من ماضيَّ، نهضاتي وعثراتي، هي من التنوع بحيث أشعر أحياناً كأني لم أعش حياة واحدة، بل حيوات عدة إحداها مختلفة عن الأخرى».

لم تشبه حياة جيل تسفايغ حياة الأجيال السابقة التي «عاشت حياة لا اضطراب فيها ولا خطر، حياة الهموم الصغيرة والتحولات التي لا تكاد تلحظ. حملها تيار الزمن من المهد إلى اللحد في إيقاع منتظم هادئ بطيء». أما جيل تسفايغ فعاش حياة متناقضة، حافلة بالمفاجآت: «أنا نفسي عاصرت أعظم حربين خاضهما البشر، وقبل الحرب الأولى عرفت أعلى درجات الحرية الفردية، وأرقى أشكالها. وفي ما بعد عرفت أدنى مستوياتها خلال مئات السنين، فكرِّمت واحتقرت، ونعمت بالحرية وحرمت منها، وتمتعت بالغنى وعانيت العوز. لقد اجتاحت حياتنا جميع الخيول الضارية التي وصفها يوحنا في رؤياه: الثورة والمجاعة، التضخم والرعب، الأوبئة والهجرة. لقد أرغمت على أن أكون شاهداً مكشوفاً ومخذولاً على انحطاط لا يصدق للإنسانية إلى البربرية المعادية للخير العام».

هذا الشاهد، الذي يحمل بين ضلوعه قلب طفل، راعه ما فعل هتلر بقارته الآمنة، فيفرد صفحات يعرب فيها عن دهشته من تحول الكائن البشري المسالم إلى متعطش للدماء والخراب. وما يميز هذه المذكرات هو أن الكاتب يبتعد من التوثيق التاريخي الجاف، ليستعين بذاكرته فحسب، فالذاكرة تحتفظ بكل ما يستحق التدوين وتهمل ما هو عابر، ومبتذل. الاقتصار على الذاكرة بعيداً من المراجع والوثائق، منح الكاتب حرية في السرد، وأضفى على أسلوب الكتابة بعداً رومنطيقياً ممزوجاً بالحنين الذي يقوده إلى مراحل الطفولة والصبا.

يستهل تسفايغ مذكراته بالحديث عن رخاء تلك المرحلة المبكرة من حياته حيث كانت فيينا رمزا للأمان والدعة لا يعكر صفوها إلا المدرسة الصارمة المغلقة. فعلى رغم انه ولد في أحضان أسرة يهودية ميسورة، إلا انه وجد المدرسة سجناً لا تحتمله الطفولة الغضة المنطلقة إلى معانقة الحياة بلا قيود. تلك المرحلة المضنية انطبعت في ذاكرته حتى بلوغه الستين: أي لدى تدوينه هذه المذكرات. والمفارقة انه ينظر إلى هذا الضغط المدرسي على انه كان سبباً في «الانبعاث المبكر للشغف بالحرية، والكراهية لكل أشكال السلطة».

يعتمد تسفايغ في كتابة مذكراته على التصاعد الزمني للحوادث، فينتقل من الطفولة إلى المراحل والفترات التي اكتشف فيها نزعة خفية في ذاته تقوده نحو القراءة. يركز، شيئاً فشيئاً، على اللحظات الوجدانية المؤثرة التي صاغت ذائقته الفنية والجمالية عبر السنوات. يصف مشاعره لدى حضور حفل موسيقي، مثلاً، ويسجل امتنانه لساعات حظي فيها بالعثور على قصيدة جميلة، ويشكر القدر الذي أتاح له الوقوف بمتعة، ذات يوم، أمام عمل نحتي أو تشكيلي جميل.

ولعل أكثر الأوقات بهجة لديه، والتي بقيت حية في الذاكرة هي تلك الأوقات التي قضاها برفقة شاعر أو روائي أو موسيقي أو نحات أو رسام... خصوصاً أولئك الذين تمتعوا بشهرة واسعة في عصره، وكانت رؤيتهم حلماً بالنسبة الى كاتب مبتدئ. في هذا الجانب كان تسفايغ مؤمناً بما قاله بلزاك: «كان أصحاب الشهرة في نظري آلهة لا يتكلمون ولا يأكلون كالآخرين». هنا يسهب تسفايغ في وصف شخصية المبدع الذي يجلس أمامه ويتحدث بطلاقة. وغالباً ما يسبغ نوعاً من القداسة على مثل هذه اللحظات، فهو يعتبر ان الروائيين والشعراء هم «بُناة العالم»، وله في هذا المقام كتاب في العنوان ذاته، يتحدث فيه عن تجربة سبعة كتاب كبار أسهموا في بناء العالم أخلاقياً، وجمالياً، وروحياً وهم: هولدرن، دستويفسكي، بلزاك، ديكنز، تولستوي، ستندال، كلايست.

ليس غريباً، والحال كذلك، أن يفرد تسفايغ في مذكراته مساحة واسعة لمزيد من الكتاب والعباقرة من أبناء جيله أو من الأجيال التي سبقته، فقد عُرف بقدرته على التحليل العميق لحياة المشاهير عبر الغوص في تفاصيل حياتهم، والإمعان في قسمات وجوههم، والكشف عن الأسرار التي اكتنفت مصائرهم. يتحدث عن أجواء أمسية حضرها في لندن للشاعر ييتس، ويصف مشاعره لدى زيارته إلى مرسم رودان في باريس، وكيف راقب هذا النحات، الذائع الصيت، وهو منكب على إنجاز عمل نحتي: «لقد رأيت في تلك الساعة السر الخالد لكل فن عظيم». ويصف الشاعر الألماني ريلكه الذي أحبه، والتقاه في مناسبات عدة، فيقول: «هذا الرجل ذو الشارب الأشقر المتدلي الكئيب قليلاً، والسيماء شبه السلافية، ربما مر به آلاف المارة من غير أن يتخيلوا انه شاعر، وانه أعظم شعراء جيلنا. كانت له طريقة في التحدث رقيقة، رقة لا توصف. كان يتكلم في بساطة مثل أم تحكي لطفلها حكاية من حكايات الجن، ويتكلم بالحب ذاته أيضاً». ويبدي تسفايغ إعجابه بقصائد هذا الشاعر: «إن ريلكه لم يدع شيئاً يغادر يديه قبل أن يكتمل».

وبمثل هذه الحفاوة البالغة يتحدث عن لقائه مع مكسيم غوركي في موسكو، وأندريه جيد في باريس، ومع فرويد، بل إن أول ما يجذب انتباهه في زياراته الكثيرة إلى المدن الأوروبية وأميركا هو اقتفاء أثر العظماء، والبحث عن جذورهم، إذ يطلب من أصدقائه في تلك البلاد مرافقته للقيام بزيارة إلى أضرحة الشعراء والروائيين والموسيقيين، وزيارة مماثلة إلى البيوت والأمكنة التي عاشوا فيها، كي يصغي إلى الصمت الذي خلفه هؤلاء الكتاب بعد حياة تمخضت عن فنون خالدة.

وهذه المذكرات من زاوية أخرى سجل يوثّق تفاصيل الحياة في القارة الأوروبية في المرحلة التي يتناولها تسفايغ، فمن خلالها نتعرف إلى الأخلاقيات السائدة، وطبيعة الحياة بكل تفاصيلها على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. نقرأ عن مدن أوروبية كثيرة، وعن الصحف التي كانت تصدر آنذاك وعن دور المسارح والأوبرا وعن الاتجاهات الأدبية وعن مدارس الفن التشكيلي... وغيرها من المسائل التي تجعل من الكتاب موسوعة تاريخية مكتوبة في قالب أدبي بأنامل رشيقة لا تتوقف إلا عند كل ما هو مدهش ويستحق التدوين.